كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَقوله تعالى لِمَا ذَكَرَ قِصَّةَ قَوْمِ لُوطٍ: {فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ} وَالْمُتَوَسِّمُ: الْمُسْتَدِلُّ بِالسِّمَةِ وَالسِّيمَا وَهِيَ الْعَلَامَةُ قال تعالى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقول}. فَمَعْرِفَةُ الْمُنَافِقِينَ فِي لَحْنِ الْقول ثَابِتَةٌ مَقْسَمٌ عَلَيْهَا لَكِنَّ هَذَا يَكُونُ إذَا تَكَلَّمُوا وَأَمَّا مَعْرِفَتُهُمْ بِالسِّيمَا فَمَوْقُوفٌ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ أَخْفَى. وَفِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «اتَّقُوا فِرَاسَةَ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ بِنُورِ اللَّهِ» ثُمَّ قرأ قوله تعالى: {إنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ} قال مُجَاهِدٌ وَابْنُ قُتَيْبَةَ لِلْمُتَفَرَّسِينَ قال ابْنُ قُتَيْبَةَ: يُقال تَوَسَّمْت فِي فُلَانٍ الْخَيْرَ أَيْ تَبَيَّنْته وَقال الزَّجَّاجُ: الْمُتَوَسِّمُونَ فِي اللُّغَةِ النُّظَّارُ الْمُثْبِتُونَ فِي نَظَرِهِمْ حَتَّى يَعْرِفُوا حَقِيقَةَ سِمَةِ الشَّيْءِ يُقال تَوَسَّمْت فِي فُلَانٍ كَذَا أَيْ عَرَفْت وَقوله الْمُثْبِتُونَ فِي نَظَرِهِمْ. أَيْ فِي نَظَرِ أَعْيُنِهِمْ حَتَّى يَعْرِفُوا السِّيمَا بِخِلَافِ الَّذِينَ قِيلَ فِيهِمْ: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ}.
وقال الضَّحَّاكُ: النَّاظِرُونَ وَقال ابْنُ زَيْدٍ: الْمُنْتَقِدُونَ وَقال قتادة: الْمُعْتَبِرُونَ. وَكُلُّ هَذَا صَحِيحٌ فَإِنَّ الْمُتَوَسِّمَ يَجْمَعُ هَذَا كُلَّهُ. ثُمَّ قال تعالى: {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ} ثُمَّ ذَكَرَ قِصَّةَ أَصْحَابِ الْأَيْكَةِ. ثُمَّ قال: {وَإِنَّهُمَا لَبِأمام مُبِينٍ} أَيْ بِطَرِيقِ مُتَبَيِّنٍ لِلنَّاسِ وَاضِحٍ.
وَكَذَلِكَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ لَمَّا قال: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} وَقال فِي سَفِينَةِ نُوحٍ: {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ أَبْقَى آيَاتٍ وَهِيَ الْعَلَامَاتُ وَالدَّلَالَاتُ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَا يَخُصُّهُ مِنْ أَخْبَارِ الْمُؤْمِنِينَ وَحُسْنِ عَاقِبَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَأَخْبَارِ الْكُفَّارِ وَسُوءِ عَاقِبَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا هُوَ مِنْ بَابِ الْآيَاتِ وَالدَّلَالَاتِ الَّتِي يُسْتَدَلُّ بِهَا وَيُعْتَبَرُ بِهَا عِلْمًا وَوَعْظًا فَيُفِيدُ مَعْرِفَةَ صِحَّةِ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَيُفِيدُ التَّرْغِيبَ وَالتَّرْهِيبَ وَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَرْضَى عَنْ أَهْلِ طَاعَتِهِ وَيُكْرِمُهُمْ وَيَغْضَبُ عَلَى أَهْلِ مَعْصِيَتِهِ وَيُعَاقِبُهُمْ كَمَا يُسْتَدَلُّ بِمَخْلُوقَاتِهِ الْعَامَّةِ عَلَى قُدْرَتِهِ فَإِنَّ الْفِعْلَ يَسْتَلْزِمُ قُدْرَةَ الْفَاعِلِ وَيُسْتَدَلُّ بِإِحْكَامِ الْأَفْعَالِ عَلَى عِلْمِهِ؛ لِأَنَّ الْفِعْلَ الْمُحْكَمَ يَسْتَلْزِمُ عِلْمَ الْفَاعِلِ وَبِالتَّخْصِيصِ عَلَى مَشِيئَتِهِ؛ لِأَنَّ التَّخْصِيصَ مُسْتَلْزِمٌ لِإِرَادَتِهِ فَكَذَلِكَ يُسْتَدَلُّ بِالتَّخْصِيصِ بِمَا هُوَ أَحْمَد عَاقِبَةً عَلَى حِكْمَتِهِ؛ لِأَنَّ تَخْصِيصَ الْفِعْلِ بِمَا هُوَ مَحْمُودٌ فِي الْعَاقِبَةِ مُسْتَلْزِمٌ لِلْحِكْمَةِ وَيُسْتَدَلُّ بِتَخْصِيصِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَتْبَاعِهِمْ بِالنَّصْرِ وَحُسْنِ الْعَاقِبَةِ وَتَخْصِيصِ مُكَذِّبِيهِمْ بِالْخِزْيِ وَسُوءِ الْعَاقِبَةِ عَلَى أَنَّهُ يَأْمُرُ وَيُحِبُّ وَيَرْضَى مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ وَيَكْرَهُ وَيَسْخَطُ مَا كَانَ عَلَيْهِ مُكَذِّبُوهُمْ؛ لِأَنَّ تَخْصِيصَ أحد النَّوْعَيْنِ بِالْإِكْرَامِ وَالنَّجَاةِ وَالذِّكْرِ الْحَسَنِ وَالدُّعَاءِ وَتَخْصِيصَ الْآخَرِ بِالْعَذَابِ وَالْهَلَاكِ وَقُبْحِ الذِّكْرِ وَاللَّعْنَةِ: يَسْتَلْزِمُ مَحَبَّةَ مَا فَعَلَهُ الْمُصَنِّفُ الْأَوَّلُ وَبُغْضَ مَا فَعَلَهُ الصِّنْفُ الثَّانِي.
وَأَمَّا الْإِرَادَةُ الَّتِي يُقال فِيهَا إنَّهَا تَخُصُّ أحد الْمِثْلَيْنِ عَنْ الْآخَرِ بِلَا سَبَبٍ فَتِلْكَ هَلْ يُوصَفُ اللَّهُ بِهَا؟ فِيهِ نِزَاعٌ..
فإن قيل: إنَّهُ لَا يُوصَفُ بِهَا فَلَا كَلَامَ وَإِنْ قِيلَ: إنَّهُ يُوصَفُ بِهَا فَمَعْلُومٌ أَنَّ تَخْصِيصَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمْ السلام بِهَذَا وَتَخْصِيصَ أَعْدَائِهِمْ بِهَذَا لَمْ يَصْدُرْ عَنْ تَخْصِيصٍ بِلَا مُخَصَّصٍ؛ بَلْ يُعْلَمُ أَنَّهُ قَصَدَ تَخْصِيصَ هَؤُلَاءِ بِالْإِكْرَامِ وَهَؤُلَاءِ بِالْعِقَابِ وَأَنَّ إيمَانَ هَؤُلَاءِ سَبَبُ تَخْصِيصِهِمْ بِهَذَا وَكَفْرَ هَؤُلَاءِ سَبَبُ تَخْصِيصِهِمْ بِهَذَا. وَلِبَسْطِ هَذِهِ الْأُمُورِ مَوْضِعٌ آخَرُ. لَكِنَّ الْمَقْصُودَ هُنَا أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ دَاخِلَةٌ فِي الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ. وَلَكِنْ أَبُو حَامِدٍ يَجْعَلُ الْحِجَاجَ صَنْعَةَ الْكَلَامِ وَيَجْعَلُ عِمَارَةَ الطَّرِيقِ عِلْمَ الْفِقْهِ وَيَجْعَلُ أَخْبَارَ الْأَنْبِيَاءِ عِلْمَ الْقَصَصِ وَيَقول: إنَّ الْكَلَامَ وَالْجَدَلَ لَيْسَ فِيهِ بَيَانُ حَقٍّ بِدَلِيلِ؛ بَلْ إنَّمَا فِيهِ دَفْعُ الْبِدَعِ بِبَيَانِ تَنَاقُضِهَا؛ وَيَجْعَلُ أَهْلَهُ مِنْ جِنْسِ خُفَرَاءِ الْحَجِيجِ وَيَجْعَلُ عِلْمَ الْفِقْهِ لَيْسَ غَايَتُهُ إلَّا مَصْلَحَةَ الدُّنْيَا وَهَذَا مِمَّا نَازَعَهُ فِيهِ أَكْثَرُ النَّاسِ وَتَكَلَّمُوا فِيهِ بِكَلَامِ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهُ كَمَا تَكَلَّمُوا عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ (جَوَاهِرِ القرآن) وَغَيْرِهِ مِنْ كُتُبِهِ مِنْ مَعَانِي الْفَلْسَفَةِ وَجَعَلَ ذَلِكَ هُوَ بَاطِنَ القرآن وَكَلَامُ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى رَدِّ هَذَا أَكْثَرُ مِنْ كَلَامِهِمْ عَلَى رَدِّ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ هَذَا فِيهِ مِمَّا يُنَاقِضُ مَقْصُودَ الرَّسُولِ أُمُورٌ عَظِيمَةٌ كَمَا تَكَلَّمُوا عَلَى مَا ذَكَرَهُ فِي النُّبُوَّةِ بِمَا يُشْبِهُ كَلَامَ الْفَلَاسِفَةِ فِيهَا.
وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ فِي {قُلْ هُوَ اللَّهُ أحد} أَحْسَنُ مِنْ قول كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ فِيهَا وَهُوَ أَقْرَبُ إلَى الْقول الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ ابْنِ سُرَيْجٍ وَنَصَرْنَاهُ؛ لَكِنَّ ذَلِكَ الْقول هُوَ الصَّوَابُ بِلَا رَيْبٍ فَإِنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَخْبَرَ بِأَنَّ اللَّهَ جَزَّأَ القرآن ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ. فَجَعَلَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أحد} جُزْءًا مِنْ أَجْزَاءِ القرآن وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مَجْمُوعَ القرآن ثَلَاثَةُ أَجْزَاءٍ لَيْسَ هُوَ سِتَّةٌ: ثَلَاثَةُ أُصُولٍ وَثَلَاثَةُ فُرُوعٍ. وَكَذَلِكَ أَخْبَرَ أَنَّ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أحد} تَعْدِلُ ثُلُثَ القرآن لَمْ يَقُلْ ثُلُثَ الْمُهِمِّ مِنْهُ وَلَا ثُلُثَ أَكْثَرِهِ وَلَا أُصُولَهُ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ القرآن كُلُّهُ ثَلَاثَةَ أَصْنَافٍ وَعَلَى مَا ذَكَرَهُ أَبُو حَامِدٍ هُوَ سِتَّةٌ: ثَلَاثَةٌ مُهِمَّةٌ وَثَلَاثَةٌ تَوَابِعُ وَالسُّورَةُ أحد الثَّلَاثَةِ الْمُهِمَّةِ وَهَذَا خِلَافُ الْحَدِيثِ. وَأَيْضًا فَإِنَّ تَقْسِيمَ القرآن إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ تَقْسِيمُ بِالدَّلِيلِ فَإِنَّ القرآن كَلَامٌ وَالْكَلَامُ إمَّا إخْبَارٌ وَإِمَّا إنْشَاءٌ وَالْإِخْبَارُ إمَّا عَنْ الْخَالِقِ وَإِمَّا عَنْ الْمَخْلُوقِ فَهَذَا تَقْسِيمٌ بَيِّنٌ. وَأَمَّا جَعْلُ عِلْمِ الْفِقْهِ خَارِجًا عَنْ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَجَعْلُ عِلْمِ الْأَدِلَّةِ وَالْحِجَجِ خَارِجًا عَنْ الْإِيمَانِ وَالْمَعْرِفَةِ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَهَذَا مَرْدُودٌ عِنْدَ جَمَاهِيرَ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ. وَأَبُو حَامِدٍ إنَّمَا ذَكَرَ هَذَا لِأَنَّهُ يَقول إنَّمَا يُعْرَفُ مَعَانِي ذَلِكَ بِطَرِيقِ التَّصْفِيَةِ فَقَطْ لَا بِطْرِيقِ الْخَبَرِ النَّبَوِيِّ وَلَا بِطْرِيقِ النَّظَرِ الِاسْتِدْلَالِيِّ فَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ بِالسَّمْعِ وَلَا بِالْعَقْلِ. وَهَذَا مِمَّا أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ النَّاسُ وَصَنَّفُوا كُتُبًا فِي رَدِّ ذَلِكَ كَمَا فَعَلَ جَمَاعَاتٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ. وَلَكِنَّ عُذْرَ أَبِي حَامِدٍ أَنَّهُ لَمْ يَجِدْ فِيمَا عَلِمَهُ مِنْ طَرِيقِ الْفَلَاسِفَةِ وَأَهْلِ الْكَلَامِ مَا يُبَيِّنُ الْحَقَّ فِي ذَلِكَ وَلَمْ يَعْلَمْ طُرُقًا عَقْلِيَّةً غَيْرَ ذَلِكَ فَنَفَى أَنْ يَعْلَمَ بِطَرِيقِ النَّظَرِ فِيهِ. وَأَمَّا الطُّرُقُ الْخَبَرِيَّةُ النَّبَوِيَّةُ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ خِبْرَةٌ بِمَا صَحَّ مِنْ أَلْفَاظِ الرَّسُولِ وَبِطَرِيقِ دَلَالَةِ أَلْفَاظِهِ عَلَى مَقَاصِدِهِ وَظَنَّ- بِمَا شَارَكَ بِهِ بَعْضَ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْفَلْسَفَةِ- أَنَّ الرَّسُولَ لَمْ يُبَيِّنْ مُرَادَهُ بِأَلْفَاظِهِ فَتَرَكَّبَ مِنْ هَذَا وَهَذَا سَدُّ بَابِ الطَّرِيقِ الْعَقْلِيِّ وَالسَّمْعِيِّ وَظَنَّ أَنَّ الْمَطْلُوبَ يَحْصُلُ لَا بِطْرِيقَ التَّصْفِيَةِ وَالْعَمَلِ فَسَلَكَ ذَلِكَ فَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ الْمَقْصُودُ أَيْضًا فَرَجَعَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ إلَى قراءة الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي عِيَاضٌ أَقْوَالًا فِي كَوْنِ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أحد} تَعْدِلُ ثُلُثَ القرآن وَكَذَلِكَ المازري قَبْلَهُ قال: قال الإمام يَعْنِي أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْمَازِرِيَّ- قِيلَ مَعْنَى ذَلِكَ: أَنَّ القرآن عَلَى ثَلَاثَةِ أَنْحَاءٍ: قَصَصٌ وَأَحْكَامٌ؛ وَأَوْصَافُ اللَّهِ جَلَّتْ قُدْرَتُهُ. و{قُلْ هُوَ اللَّهُ أحد} تَشْتَمِلُ عَلَى ذِكْرِ الصِّفَاتِ فَكَانَتْ ثُلُثًا مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ قال: وَرُبَّمَا أَسْعَدَ هَذَا التَّأْوِيلُ ظَاهِرَ الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَ أَنَّ اللَّهَ جَزَّأَ القرآن.
قلت: هَذَا هُوَ قول ابْنِ سُرَيْجٍ- وَهُوَ الَّذِي نَصَرْنَاهُ- ذَكَرَهُ المازري فِي كَلَامِ ابْنِ بَطَّالٍ كَمَا سَيَأْتِي.
قال: وَقِيلَ مَعْنَى ثُلُثِ القرآن لِشَخْصِ بِعَيْنِهِ قَصَدَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم. وَذَكَرَهُ ابْنُ بَطَّالٍ أَيْضًا قال: وَقِيلَ مَعْنَاهُ إنَّ اللَّهَ يَتَفَضَّلُ بِتَضْعِيفِ الثَّوَابِ لِقَارِئِهَا وَيَكُونُ مُنْتَهَى التَّضْعِيفِ إلَى مِقْدَارِ ثُلُثِ مَا يَسْتَحِقُّ مِنْ الْأَجْرِ عَلَى قراءة القرآن مِنْ دُونِ تَضْعِيفِ أَجْرٍ قال: وَفِي بَعْضِ رِوَايَاتِ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَشَدَ النَّاسَ وَقال: «سَأَقرأ عَلَيْكُمْ ثُلُثَ القرآن» فَقرأ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أحد}.
قال المازري: وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تَقْدَحُ فِي تَأْوِيلِ مَنْ جَعَلَ ذَلِكَ لِشَخْصِ بِعَيْنِهِ.
قال الْقَاضِي عِيَاضٌ: قال بَعْضُهُمْ قال اللَّهُ تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} ثُمَّ بَيَّنَ التَّفْصِيلَ فَقال: {أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا اللَّهَ} فَهَذَا فَصْلُ الْأُلُوهِيَّةِ ثُمَّ قال: {إنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} وَهَذَا فَصْلُ النُّبُوَّةِ ثُمَّ قال: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إلَيْهِ} فَهَذَا فَصْلُ التَّكْلِيفِ وَمَا وَرَاءَهُ مِنْ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَعَامَّةِ أَجْزَاءِ القرآن مِمَّا فِيهِ مِنْ الْقَصَصِ فَمَنْ فَصَلَ النُّبُوَّةَ لِأَنَّهَا مِنْ أَدِلَّتِهَا وَفَهْمِهَا أَيْضًا وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أحد} جَمَعَتْ الْفَصْلَ الْأَوَّلَ.
قلت: مَضْمُونُ هَذَا الْقول أَنَّ مَعَانِيَ القرآن ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: الْإِلَهِيَّاتُ وَالنُّبُوَّاتُ وَالشَّرَائِعُ. وَأَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ مِنْهَا الْإِلَهِيَّاتُ وَجَعَلَ صَاحِبُ هَذَا الْقول الْوَعْدَ وَالْوَعِيدَ وَالْقَصَصَ مِنْ قِسْمِ النُّبُوَّةِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا أَخْبَرَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَوْ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى نُبُوَّتِهِ. وَهَذَا الْقول ضَعِيفٌ أَيْضًا فَإِنَّهُ يُقال: وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ أَيْضًا مِمَّا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ كَمَا جَاءَ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ. وَيُقال أَيْضًا: الْقَصَصُ تَدُلُّ عَلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ كَمَا تَدُلُّ عَلَى النُّبُوَّةِ فَإِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى إكْرَامِهِ لِمَنْ أَطَاعَهُ وَعُقُوبَتِهِ لِمَنْ عَصَاهُ وَهَذَا تَقْرِيرٌ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَأَيْضًا فَإِنَّ مَقْصُودَ النُّبُوَّةِ هُوَ الْإِخْبَارُ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَبِمَا أَخْبَرَ بِهِ وَمَا دَلَّ عَلَى إثْبَاتِ النُّبُوَّةِ مِنْ الْقَصَصِ يَدُلُّ عَلَى إثْبَاتِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ وَمَا دَلَّ عَلَى إثْبَاتِ مَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ يَدُلُّ عَلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ الَّذِي جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ فَهُمَا مُتَلَازِمَانِ. ثُمَّ الْإِلَهِيَّاتُ أَيْضًا هِيَ مِمَّا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَبَيَّنَ الدَّلَائِلَ الْعَقْلِيَّةَ عَلَى مَا يُمْكِنُ أَنْ يُعْرَفَ بِالْعَقْلِ وَأَخْبَرَ عَنْ الْغَيْبِ الْمُطْلَقِ الَّذِي تَعْجِزُ الْعُقول عَنْ مَعْرِفَتِهِ. فَلَا مَعْنَى لِجَعْلِ الْقَصَصِ دَاخِلَةً فِي النُّبُوَّةِ دُونَ الْإِلَهِيَّاتِ فَإِنَّهُ إنْ عَنِيَ أَنَّ الْقَصَصَ تَدُلُّ عَلَى نُبُوَّتِهِ فَهِيَ تَدُلُّ مِنْ جِهَةِ إخْبَارِهِ بِهَا كَإِخْبَارِهِ بِغَيْرِهَا مِنْ الْغَيْبِ وَفِيمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ الْإِلَهِيَّاتِ وَالْأُمُورِ الْمُسْتَقْبِلَاتِ مَا هُوَ كَالْقَصَصِ فِي ذَلِكَ وَأَبْلَغَ. وَإِنْ عَنِيَ أَنَّ تَعْذِيبَ الْمُكَذِّبِينَ يَدُلُّ عَلَى النُّبُوَّةِ فَهِيَ تَدُلُّ عَلَى جِنْسِ النُّبُوَّةِ وَعَلَى نُبُوَّةِ مَنْ عَذَّبَ قَوْمَهُ؛ لَا تَدُلُّ عَلَى نُبُوَّةِ الْمُتَأَخِّرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ جِنْسِ مَا أَخْبَرَ بِهِ الْأَوَّلُ. وَهَذِهِ الْأُمُورُ كُلُّهَا مَوْجُودَةٌ فِي الْإِلَهِيَّاتِ وَزِيَادَةٌ فَإِنَّهُ قَدْ أَخْبَرَ فِيهَا بِمِثْلِ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلَهُ قَدْ ذَكَرَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ كَقوله: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} وَقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إلَّا نُوحِي إلَيْهِ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} وَقوله: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ قَصَّ أَخْبَارَهُمْ كَنُوحِ وَهُودٍ وَصَالِحٍ وَشُعَيْبٍ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمْ يَقول لِقَوْمِهِ: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إلَهٍ غَيْرُهُ} بَلْ يَفْتَتِحُ دَعْوَتَهُ بِذَلِكَ وَذَكَرَ تعالى عَنْ الْأَنْبِيَاءِ وَأُمَمِهِمْ مِنْ نُوحٍ إلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنَّهُمْ كَانُوا مُسْلِمِينَ كَمَا قَدْ بُسِطَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ. وَأَيْضًا فَالْإِلَهِيَّاتُ الَّتِي تُعْلَمُ مِنْهَا قُدْرَةُ الرَّبِّ وَإِرَادَتُهُ وَحِكْمَتُهُ وَأَفْعَالُهُ: مِنْهَا يُعْلَمُ النَّبِيُّ مِنْ الْمُتَنَبِّئِ وَمِنْهَا يُعْلَمُ صِدْقُ النَّبِيِّ فَهِيَ أَدَلُّ عَلَى صِدْقِ النَّبِيِّ مِنْ مُجَرَّدِ الْقَصَصِ وَمَا فِي الْقَصَصِ مِنْ الدَّلَالَةِ عَلَى صِدْقِهِ إنَّمَا يَدُلُّ مَعَ الْإِلَهِيَّاتِ وَإِلَّا فَلَوْ تَجَرَّدَ لَمْ يَدُلَّ عَلَى شَيْءٍ فَالنُّبُوَّةُ مُرْتَبِطَةٌ بِالْإِلَهِيَّاتِ أَعْظَمُ مِنْ ارْتِبَاطِهَا بِغَيْرِهَا وَالْأَنْبِيَاءُ إنَّمَا بُعِثُوا بِالدَّعْوَةِ إلَى اللَّهِ وَحْدَهُ وَقَدْ يَذْكُرُونَ الْمَعَادَ مُجْمَلًا وَمُفَصَّلًا وَالْقَصَصُ قَدْ يَذْكُرُ بَعْضُهُمْ بَعْضَهَا مُجْمَلًا. وَأَمَّا الْإِلَهِيَّاتُ فَهِيَ الْأَصْلِ ولابد مِنْ تَفْصِيلِ الْأَمْرِ بِعِبَادَةِ اللَّهِ وَحْدَهُ دُونَ مَا سِوَاهُ فلابد لِكُلِّ نَبِيٍّ مِنْ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ: الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ. وَالْأُصُولُ الْكُلِّيَّةُ الَّتِي يَشْتَرِكُ فِيهَا الْأَنْبِيَاءُ يَذْكُرُهَا اللَّهُ فِي السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ مِثْلَ الْأَنْعَامِ وَالْأَعْرَافِ وَذَوَاتِ {الر} و{طسم} و{حم} وَأَكْثَرِ الْمُفَصَّلِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَالْمَدَنِيَّاتُ تَتَضَمَّنُ خِطَابَ مَنْ آمَنَ بِجِنْسِ الرُّسُلِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ بِالشَّرَائِعِ الَّتِي بُعِثَ بِهَا خَاتَمُ الرُّسُلِ. وَأَمَّا قول مَنْ قال: إنَّ هَذَا فِي شَخْصٍ بِعَيْنِهِ فَفِي غَايَةِ الْفَسَادِ لَفْظًا وَمَعْنًى. ثُمَّ أَنَّ اللَّهَ إنَّمَا يَخُصُّ الشَّيْءَ الْمُعَيَّنَ بِحُكْمِ يَخُصُّهُ لِمَعْنَى يَخْتَصُّ بِهِ كَمَا قال لِأَبِي بُرْدَةَ بْنِ نِيَارٍ- وَكَانَ قَدْ ذَبَحَ فِي الْعِيدِ قَبْلَ الصَّلَاةِ- قَبْلَ أَنْ يُشَرِّعَ لَهُمْ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ الذَّبْحَ يَكُونُ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَلَمَّا قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «أَوَّلُ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ ثُمَّ نَذْبَحُ فَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَلْيُعِدْ فَإِنَّمَا هِيَ شَاةُ لَحْمٍ قَدَّمَهَا لِأَهْلِهِ» ذَكَرَ لَهُ أَبُو بُرْدَةَ أَنَّهُ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَلَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَجُوزُ وَذَكَرَ لَهُ أَنَّ عِنْدَهُ عَنَاقًا خَيْرًا مِنْ جَذَعَةٍ فَقال:«تُجْزِئُ عَنْك وَلَا تُجْزِئُ عَنْ أحد بَعْدَك» فَخَصَّهُ بِهَذَا الْحُكْمِ لِأَنَّهُ كَانَ مَعْذُورًا فِي ذَبْحِهِ قَبْلَ الصَّلَاةِ؛ إذْ فَعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ شَرْعِ الْحُكْمِ فَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ الذَّبْحُ مَنْهِيًّا عَنْهُ بَعْدُ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ إلَّا هَذَا السِّنُّ وَأَمَّا أَمْرُهُ لِامْرَأَةِ أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ عتبة أَنْ تُرْضِعَ سَالِمًا مَوْلَاهُ خَمْسَ رَضَعَاتٍ لِيَصِيرَ لَهَا مُحَرَّمًا فَهَذَا مِمَّا تَنَازَعَ فِيهِ السَّلَفُ: هَلْ هُوَ مُخْتَصٌّ أَوْ مُشْتَرَكٌ؟ وَإِذَا قِيلَ هَذَا لِمَنْ يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ- كَمَا احْتَاجَتْ هِيَ إلَيْهِ- كَانَ فِي ذَلِكَ جَمَعَ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ. وَبِالْجُمْلَةِ فَالشَّارِعُ حَكِيمٌ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ مُتَمَاثِلَيْنِ إلَّا لِاخْتِصَاصِ أحدهِمَا بِمَا يُوجِبُ الِاخْتِصَاصَ وَلَا يُسَوِّي بَيْنَ مُخْتَلِفَيْنِ غَيْرِ مُتَسَاوِيَيْنِ بَلْ قَدْ أَنْكَرَ سبحانه عَلَى مَنْ نَسَبَهُ إلَى ذَلِكَ وَقَبَّحَ مَنْ يَحْكُمُ بِذَلِكَ فَقال تعالى: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} وَقال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} وَقال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} وَقال تعالى: {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ} وَقال تعالى: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}. وَإِنَّمَا يَكُونُ الِاعْتِبَارُ إذَا سَوَّى بَيْنَ الْمُتَمَاثِلَيْنِ وَأَمَّا إذَا قِيلَ: لَيْسَ الْوَاقِعُ كَذَلِكَ فَلَا اعْتِبَارَ. وَقَدْ تَنَازَعَ النَّاسُ فِي هَذَا الْأَصْلِ وَهُوَ أَنَّهُ هَلْ يَخُصُّ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مَا يَخُصُّهُ لَا لِسَبَبِ وَلَا لِحِكْمَةِ قَطُّ بَلْ مُجَرَّدُ تَخْصِيصِ أحد الْمُتَمَاثِلَيْنِ عَلَى الْآخَرِ؟ فَقال بِذَلِكَ جَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ الْجَبْرِيَّةِ وَوَافَقَهُمْ كَثِيرٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ الْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ. وَأَمَّا السَّلَفُ وَأَئِمَّةُ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالتَّصَوُّفِ وَأَكْثَرِ طَوَائِفِ الْكَلَامِ الْمُثْبِتِينَ لِلْقَدَرِ كالكَرَّامِيَة وَغَيْرِهِمْ وَنَفُتْهُ كَالْمُعْتَزِلَةِ وَغَيْرِهِمْ فَلَا يَقولونَ بِهَذَا الْأَصْلِ بَلْ يَقولونَ: هُوَ سبحانه يَخُصُّ مَا يَخُصُّ مِنْ خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ لِأَسْبَابِ وَلِحِكْمَةِ لَهُ فِي التَّخْصِيصِ كَمَا بُسِطَ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ فِي مَوَاضِعَ.